موضوع: قاتل المائة نفس الأربعاء مارس 02, 2011 12:52 am
قاتل المائة نفس
تحكي هذه القصة عن رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات ، حتى قتلمائة نفس ، وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق ؟! ومع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال في قلبه بقية من خير ،وبصيص من أمل يدعوه إلى أن يطلب عفو الله ومغفرته فخرج من بيته باحثاً عن عالم يفتيه ، ويفتح له أبواب الرجاءوالتوبة ، ومن شدة حرصه وتحريه لم يسأل عن أي عالم ، بل سأل عن أعلم أهل الأرضليكون على يقين من أمره ، فدُلَّ على رجل راهب والمعروف عن الرهبان كثرة العبادة وقلةالعلم ، فأخبره بما كان منه ، فاستعظم الراهب ذنبه ، وقنَّطه من رحمة الله ، وازدادالرجل غيّاً إلى غيِّه بعد أن أُخْبِر أن التوبة محجوبة عنه ، فقتل الراهب ليتم بهالمائة. ومع ذلك لم ييأس ولم يقتنع بما قال الراهب ، فسأل مرة أخرى عنأعلم أهل الأرض ، وفي هذه المرة دُلَّ على رجل لم يكن عالماً فحسب ولكنه كان مربياًوموجهاً خبيراً بالنفوس وأحوالها ، فسأله ما إذا كانت له توبة بعد كل الذي فعله ،فقال له العالم مستنكرا ومستغربا : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟! ، وكأنه يقول : إنها مسألة بدهية لا تحتاج إلى كثير تفكير أوسؤال ، فباب التوبة مفتوح ، والله عزوجل لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ورحمته وسعت كل شيء ، وكان هذا العالم مربيا حكيما ، حيث لم يكتفبإجابته عن سؤاله وبيان أن باب التوبة مفتوح ، بل دله على الطريق الموصل إليها ،وهو أن يغير منهج حياته ، ويفارق البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها ، ويتركرفقة السوء التي تعينه على الفساد ، وتزين له الشر ، ويهاجر إلى أرض أخرى فيهاأقوام صالحون يعبدون الله تعالى ، وكان الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة ، وخرج قاصدا تلكالأرض ، ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله ، ولشدة رغبته في التوبة نأى بصدرهجهة الأرض الطيبة وهو في النزع الأخير ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ،كل منهم يريد أن يقبضروحه ، فقالت ملائكة العذاب : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً أبدا ، وقالت ملائكةالرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله ، فأرسل الله لهم ملكا في صورة إنسان، وأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين ، الأرض التي جاء منها ، والأرض التي هاجر إليها، فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب ، وأرض الشر والفساد أن تتباعد ، فوجدوهأقرب إلى أرض الصالحين بشبر ، فتولت أمره ملائكة الرحمة ، وغفر الله له ذنوبه كلها . إن هذه القصة تفتح أبواب الأمل لكل عاص ، وتبين سعة رحمة الله ،وقبوله لتوبة التائبين ، مهما عظمت ذنوبهم وكبرت خطاياهم كما قال الله : {قل يا عبادي الذين أسرفوا علىأنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }( الزمر 53) ، ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله ومغفرته ، فقد ظن بربه ظنالسوء ، وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب ، فكذلك القنوط من رحمة الله ، قال عز وجل : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح اللهإلا القوم الكافرون } (يوسف: 87) ولكن لا بد من صدق النية في طلبالتوبة ، وسلوك الطرق والوسائل المؤدية إليها والمعينة عليها ، وهو ما فعله هذاالرجل ، حيث سأل وبحث ولم ييأس ، وضحى بسكنه وقريته وأصحابه في مقابل توبته ، وحتىوهو في النزع الأخير حين حضره الأجل نجده ينأى بصدره جهة القرية المشار إليها ممايدل على صدقه وإخلاصه . وهذه القصة تبين كذلك أن استعظام الذنب هو أول طريق التوبة ،وكلما صَغُرَ الذنب في عين العبد كلما عَظُمَ عند الله ، يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه فيأصل جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذافطار " ، وهذا الرجل لولا أنه كان معظماً لذنبه ، خائفاً من معصيته لماكان منه ما كان .والقصة أيضاً تعطي منهجاً للدعاة بألا ييأسوا من إنسان مهما بلغتذنوبه وخطاياه ، فقد تكون هناك بذرة خير في نفسه تحتاج إلى من ينميها ويسقيها بماءالرجاء في عفو الله والأمل في مغفرته ، وألا يكتفوا بحثِّ العاصين على التوبةوالإنابة ، بل يضيفوا إلى ذلك تقديم البدائل والأعمال التي ترسخ الإيمان في قلوبالتائبين ، وتجعلهم يثبتون على الطريق ، ولا يبالون بما يعترضهم فيه بعد ذلك . وفي القصة بيان لأثر البيئة التي يعيش فيها الإنسان والأصحابالذين يخالطهم على سلوكه وأخلاقه ، وأن من أعظم الأسباب التي تعين الإنسان علىالتوبة والاستقامة هجر كل ما يذكر بالمعصية ويغري بالعودة إليها ، وصحبة أهل الصلاحوالخير الذين يذكرونه إذا نسي ، وينبهونه إذا غفل ، ويردعونه إذا زاغ . وفيها كذلك أهمية العلم وشرف أهله ، وفضل العالمعلى العابد فالعلماء هم ورثة الأنبياء جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بها فيظلمات البر والبحر