"فى الواقع" تذكرنى دائما بالوقوع، السقوط، الانحاط، الاستسلام، الجبن، المداهنة، المسايرة، ذلك لأن كلما ارتبطت بالواقع زاد ثقلك وانعدمت قدرتك على التحليق حيثما تستطيع، وزادت معوقاتك وارتبكت حساباتك، وزادت معاناتك وكثر محبطيك، أنا أكره هذه الكلمة لأنها دواء العجزة والغافلين والمنتفعين على حد سواء، من لا يقدر؛ يستسلم لـ"الواقع" ومن لا يعرف؛ لا يقنع بغير "الواقع" ومن يسترزق؛ همه الأول والأخير هو المحافظة على "الواقع" وحدهم الحالمون المثاليون لا يرضون بالواقع، ولولاهم لجلسنا فى كهف الإنسان الأول نعبد الحيوانات، ونرتعب من الأمطار والرياح ونحسب كل ظل شبحا نلوذ منه بالفرار.
بالنسبة لى مثل أصبح ميدان التحرير نموذجاً للتمرد على الواقع، هو ساحة الخيال الجامح الذى لا يعترف بالمعوقات ولا المحبطات، أتذكر أيام ثورة مصر العظيمة أننى كلما كنت أبتعد عن الميدان أشعر بالتوهة والخوف والتخبط من كثرة حملات التضليل التى كنا نتعرض إليها، فألوذ بالميدان فآمن من خوف ويطمئن قلبى من هلع، الحقائق فى الميدان واضحة، والأهداف لا تشوبها الشوائب، تتشابه أيامنا هذه بأيام الثورة الأولى، فقد كثر المتسلقون وعلا صوت المنتفعين، وخفت صوت الحقيقة والحق، انظر مثلا إلى جلسات الحوار الوطنى الذى قاده السيد يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء ودعوته المستفزة إلى المصالحة مع رموز النظام السابق، لتتأكد أن من حسبوا أنفسهم على الثورة هم أول ركيزة من ركائز ما يسمى بالثورة المضادة، اسأل نفسك لماذا لم يقدم مبارك إلى الآن إلى المحاكمة بتهمة قتل شهداء الثورة، ولماذا يتم التستر على زكريا عزمى، ولماذا طلع فتحى سرور علينا ليمارس هوايته فى الكذب المقنن، ولماذا يتباطأ الدكتور الجمل فى إجراء التغييرات فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، ولماذا نسير على مهلنا فى استعادة أموالنا المسروقة والمهربة إلى الخارج، ولماذا مازلنا نحتفظ بالمسئولين الفاسدين فى مواقعهم، ولماذا لم تستعد الشرطة قواتها إلى الآن، ولماذا علت نبرة منتقدى الثورة وشاتمى الشهداء ولماذا خفتت روحنا الثورية، إن لم تجد إجابة مقنعة على هذه الأسئلة فتعالى غداً إلى الميدان، وإن لم تكن هذه الأشياء تهمك فـ"ولا يكون عندك فكرة" وارض بـ"الواقع".
قبل أن تسب "بتوع الميدان" لأنهم لم يرضوا بالواقع فأرجوك تذكر أن الأنبياء أيضا لم يرضوا بالواقع، وقاوموه وحاربوه بكل ما أتوا من قوة ووحى، أنكرهم الأقربون، وخذلهم المقربون، وتطاول عليهم السذج والأطفال والغافلون، حاربهم الأباطرة، وعذبهم الجبابرة، وضيقوا عليهم الخناق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، اتهموهم بالجنون مرة وبالخيانة مرة وبالكفر مرات ومرات، لكنهم لم يعبأوا بمناوئيهم ومضوا إلى سبيلهم يكتنفهم النور ويرعاهم النور ويحميهم من لا تأخذه سنة ولا نوم.
العلماء أيضا لم يرضوا بالواقع حاولوا قدر استطاعتهم ألا يستسلموا إليه، عباس ابن فرناس الذى حلم بالطيران، كان عالما، لم يرض بالسكون والسكوت، وأراد أن يطير بين السحاب، ولم يمنع فشله فى محاولته من أن تحقق البشرية ما حلم به، جالليو أيضا فكر ودرس ووعى لكنه وجد من يضطهده من رجال الكنيسة، مدعين أن آراءه العلمية تتعارض مع أفكار الكتاب المقدس، وعلى أثر ذلك عاش منفياً فى منزله ومات وحيدا دون تكريم، لكن هذا المصير الأسود لم يحرمه من الخلود، وتمثاله الراسخ داخل جدران الفاتيكان أكبر دليل على انتصاره على من ناصبوه العداء الذين أرادوا أن يجروا البشرية إلى الوراء بمقدار ألف سنة.
قرآننا الكريم ذاته، يأبى حالة الخضوع والخنوع التى يدعو إليها البعض، ويكاد الله جل وعلا أن يساوى بين مرسخى "التنبلة" ومحبطى الثورات من ناحية والبهائم من ناحية أخرى، مؤكداً أن من يركنون إلى الراحة والدعة والاستقرار على الباطل لهم من العذاب الكثير، حيث يقول الله تعالى "إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا"، ويذم القرآن الراكنين إلى التمتع والمنكبين على المشارب والمآكل مقصراً هذه الصفات على الكفار قائلا "والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ".
شباب ثورة مصر دعوا إلى مظاهرة مليونية يوم غد الجمعة وسط العديد من الاعتراضات والاتهامات المعتادة، وما مظاهرة الجمعة إلا إثبات عملى على أن ضمير مصر مازال يقظا ضد من يحاولون أن يغتالونه، غداً سأذهب إلى الميدان كى لا يفوتنى حرف واحد من التاريخ الذى نكتبه، وكى لا أترك لشياطين الفساد مخرجا ليهربوا منه، سأذهب إلى الميدان لأن الفاسدين شعروا بأننا غفلنا عنهم، وظهروا علينا فى الفضائيات والصحف والأماكن العامة كما لو كانوا يغيظوننا ويبشرونا بأن ثورتنا لم تطلهم من قريب أو بعيد، سأذهب إلى الميدان لأن قتلة أبناء مصر مازالوا ينعمون بالأمان، وقد ظنوا أنهم بعيدون عن أعيننا، وعن سيف قضائنا، سأذهب إلى الميدان لأدعم موقف قواتنا المسلحة التى تحارب الفساد فى مؤسساتنا، ولأساهم فى إضفاء المزيد من الشرعية على محاربتها للفساد، ولأثبت للجميع أن الجيش والشعب مازالوا "إيد واحدة" رغم كل ما حدث، سأذهب إلى الميدان لأن "الجبان جبان والجدع جدع" وأنا أحب أن أكون فى فئة "الجدع"، ولا أحب أن أكون من صنف "الجبان"، وأحب دائما أن أغنى "خلى الميدان صاحى صاحى صاحى".